عندما كنت طفلاً صغيرا،ً
سمعت جدي يقول لأبي ما أجمل أيام زمان، وبعد أن كبرت وأصبحت شابا يافعا، سألت والدي
ما الذي دائما تتذكره وتحن إليه وتتمنى رجوعه اليوم..!
قال
: بالحرف الواحد " أيام زمان " كان الناس فيها - طيبين - متراحمين – متكافلين
- متواصين - متواصلين - متواضعين - وربما الجار يعرف أدق
تفاصيل أخبار جاره، أما اليوم في ثورة التكلونوجيا وأجهزة الاتصال والتواصل، والباب
بالباب وتأتي الأعياد والمناسبات، ولا يزور الجار جاره، وبعضنا لا يعرف حتى اسم جاره..
ما أحلى وأجمل أيام
زمان هذه العبارة تتناقلها المجالس والديوانيات، وكلما جلست مجلسا وأذكر أيام زمان،
يوم كنا صغار إلا واسمع تنهيدات تخرج من أعماق الصدر تقول الله يرحم أيام زمان..
وأذكر
لكم قصة حصلت معي شخصياً، يوماً مات جار لي في العمارة التي اسكن فيها، وفي اليوم الثالث
من العزاء قابلت جار لي آخر قلت هل
ذهبت لعزاء فلان.!
قال من
فلان.! .. قلت له جارنا.! .. قال من جارنا.!
قلت جارنا في نفس العمارة
وشقته في نفس دورنا، قد توفي من ثلاثة أيام، الصدمة كانت قوية، والأدهى والأمَر من ذلك أنه لا يعرف حتى أسم جاره. أقول : " لا تعليق
"..
أنا أجزم أن العذر ذهب
كما ذهب عذر جحا معتذراً لجاره أن الحمار قد مات، يوم أن طلب منه استعمال الحمار في
حاجه، فإذا بالحمار ينهق من داخل الدار ليقول للجار أنا بخير لم أمت، لكن جحا لا يريد
أن تأخذني في خدمتك، وهكذا حالنا لمن يدعي
الانشغال وأن وقته غير كافي للتواصل مع والديه - إخوانه - أقربائه - أصدقائه - جيرانه
– زملائه..
أما أنا دائما التفكير
والتذكر لأيام زمان، حتى بعد أن أمضيت أيام جميلة من عمري متنقلا بين دولٍ كثير إما
للعمل أو للزيارة أقول نعم ما أجمل أيام زمان..
يوماَ
كنت أقيم في مدينة جدة - عروس البحر الأحمر - المدينة الجميلة - الساحلية - السياحية
- والتي هي مسقط راسي - ترعرعت في كنفها - درست في مدارسها - تجولت في شوارعها - لعبت
بين أزقتها - تنقلت في أحيائها - زرت مراكزها وأسواقها - صليت في مساجدها - شممت عبير
هواها - سبحت في وشاطئيها -. جالست صغارها قبل كبارها - وخلال فترة مكوثي في مدينة
جدة تعرفت على الوزير والغفير - الرئيس والمرؤوس - الغني والفقير - التاجر والمسكين..
لكن الذي بقي لي من
هؤلاء فقط ومن أتذكره وأتواصل معه على الدوام أو بين الفينة والأخرى الصديق الصدوق
صادق الوعد منصفا، والبقية ذهبوا بخيرهم وشرهم مع أدراج الرياح وجمال أيام زمان..
في حياتي كلها عندما
تعتريني مشكلة يصعب علي حلها، أو لدي مشورة في أمر هام، مباشرة أتجه إلى الله عزوجل
مستخيرا،ً ثم إلى أصدقائي القدامى بعرض مشكلتي أو مشورتي عليهم، وفي النادر التجئ إلى
من تعرفت عليهم لاحقا، وكل أصدقائي فيهم الخير والبركة لأني ما اخترت صديقا إلا وأنا
متأكد تماما من صداقته قولا وفعلا..
وها أنا
اليوم اكتب مقالي ( رحم الله أيام زمان
) قبل أن أتجه إلى المدينة الجميلة .. مدينة جدة .. التي لم استطيع
نسيانها فكلما اشتقت إليها وحنيت إلى ترابها وتذكرت أهلها، وخاصة من تربطني بهم علاقة
وثيقة كعلاقة السمك بالماء، تجدني احمل نفسي وأمتعتي فار إلى معشوقتي لا تذكر أيام
زمان..
أكتب عن مدينتي الجميلة وحارتي القديمة .. كلماتي تقطر بالحنين، وتنزف بجرح البعد، وبحبر
الوفاء، عن ذكريات السنين، ما بين الحنين للماضي والطفولة والبراءة، وما بين مشاعر
الحزن تارة والفرح تارة
أخرى، وعن ما كان يحمله أهلها من الصدق والإيثار والتعاون والتكافل الاجتماعي..
سأخبركم
سراً .. سأذهب لحارتي القديمة وسأجلس مع أصدقائي
القدامى، لأتذكر أيام زمان، أحلى أيام قضيتها في حياتي، صحيح أنها
أصبحت من الماضي، والماضي لا يعود، لكن الحنين للماضي مازال موجود، ومن طبعي لا
أنسى الأنفس الطيبة والقلوب البيضاء وكل من مر على خاطري فأتحفني بفيض كرمة ونبل
أخلاقه وحسن تعامله..
ومضة :
ما أجمل بساطة وهدوء أيام زمان، حيث عيشة الآباء والأجداد بالرغم من الصعوبات التي واجهتم، إلا أنهم كانوا يعيشون الحياة ببساطة وسعادة وترابط ولحمة، الله يعيد علينا تلك الأيام لمستقبل باهر وبمقومات الحضارة والتمدن..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق